المؤسسات و ترند "الأنا العليا"

قدم العالم "سيغموند فرويد" في نظريته البنيوية ثلاث مصطحلات اعتبرها الأقسام الثلاثة للنفس البشرية، وهي ببساطة على الشكل التالي:

1- الهو والذي يمثل غرائز الإنسان بشكل بحت.

2- الأنا العليا وهي تمثل الحالة المثالية التي يسعى إليها الإنسان وهي مستمدة من التربية والدين والمبادئ الأخلاقية الاجتماعية.

3- الأنا وهي حالة التوازن ما بين الحالتين السابقيتن، فهي عندما يشبع الإنسان حاجاته بطريقة مقبولة بالنسبة لمجتمعه ومحيطه.

 وما يجعلني أبدأ تدوينتي  بالمقدمة النفسية هذه هو البند الثاني من مصطلحات فرويد، الأنا العليا، التي تمثل المبادئ والقيم والأخلاقيات والسلوكيات وكل المثل العليا التي تسعى المؤسسات اليوم إلى تحقيقها بعد موجة كل ما يخص التنمية الإدارية من ورشات ودبلومات ودورات واجتماعات وغسالات وبرادات للبيع...

أمطرتنا المعاهد والمؤسسات التنموية بهذه المحاضرات الإيجابية التي تهدف إلى صنع تغيير في سلوكيات الأفراد ضمن المؤسسة وسلوك المؤسسات ضمن المجتمع، وللحقيقة أن أغلب هذه المواد المقدمة مفيد، لكن إما غير وثيق الصلة بالواقع السوري، كأن تتحدث عن أزمة تسونامي في حمص، أو غير مرتبط بأدوات حقيقية يمكن تطبيقها على الأرض.

أما القلة القليلة من المواد التعليمية التي كانت ذات فاعلية حقيقية فهي بحاجة لسنوات من التطبيق لتحدث تغييراً في سلوك الأفراد ينعكس بشكل واضح على سلوك المؤسسة في المجتمع.

لكن الـ"ترند" المحلية الجديدة التي ركبت موجتها المؤسسات هي حقيقة موضة "الأنا العليا" التي تقدم المؤسسة نفسها من خلالها عبر عبارات جذابة ومثيرة وذات نغمة موسيقية رنانة، ومازاد في الطنبور نغماً هو الهوية البصرية البراقة التي تساعد في ذلك.

حيث تبدو هذه التطلعات القيمية العالية منفصلة تماماً عن المؤسسة وأدائها، ومستمدة من موضات منتشرة يُراد التماشي معها لكسب المزيد من رضا الجمهور.

ما معنى أن تقوم مؤسسة ما برفع شعار لمّاع مثل "ننشر المحبة والسلام" وأن تشعل حروباً حقيقية في كل عمل تقوم به؟



أذكر أني في مرة كنت ضمن جهة تعمل في مشروع تواصل لا عنفي مع الأطفال. كانت المشكلة رقم واحد التي نعاني منها مع منسق المشروع هي تواصله العنيف معنا! يبدو الأمر مضحكاً لكن كنا نعاني حقيقة من أسلوبه في التعاطي معنا.

وأذكر أني كنت أعمل في مشروع ثان في مجال الرفاه النفسي للطفل، وكنا حينها نعاني من القهر النفسي في الجهة المنظمة ذاتها بعدم وجود أي آليات لتفريغ الضغط النفسي الذي يتعرض له العاملون مع الأطفال وأهاليهم، حيث أننا كنا نقابل حالات مرت بظروف بشعة تلقي بما تحمله في داخلها أمامنا في محاولة لمساعدتها في تجاوز الآثار النفسية للكوارث التي مروا بها.

كما أذكر أني كنت أعمل في مدرسة كانت في كل مرة يزورها مفتش التربية، تغير غرفة الطلاب من ذوي الإعاقة من الغرفة المنفصلة والتي لها درج، إلى غرفة ثانية في الطابق الأرضي مخصصة للحضانة، وتخرج أطفال الحضانة للعب في الباحة، حيث كان ممنوعاً استخدام تلك الغرفة المنفصلة حسب قواعد السلامة.

ولا أنسى أحد المجتمعات التنموية التي كنت متطوعة معها والتي كانت تنادي ببناء مساحة للنفس وللآخر بحيث تخلق نوع من التواصل الحقيقي بين مختلف الأفراد، والتي كان مؤسسيها يرفضون بشكل قاطع أي تواصل مع أي مبادرة أو جهة أخرى تعمل في نفس المجال!

كل ما ذكرته من تجارب كان لجهات تروج نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام بجمل مزركشة تدغدغ رغبة الناس بأن يكون هناك أمل بوجود ما يجعل هذا المكان مختلفاً عن غيره.

يمكنك أن تنشئ مدونة لقواعد السلوك وأن تعممها ضمن مؤسستك وأن تعلنها أمام الملأ، ثم أن تصور مقاطع فيديو تشرح فيها عن أهمية العلاقة السليمة بين جميع الأفراد الذي يعملون تحت مظلتك وأن تجعل كل حياتك تتمحور حول المبادئ والقيم التي تتفنن في بروظتها، لكن ما أن تصدر عنك تصرفات لا تنسجم مع ذلك سيفقد من حولك الإيمان بك، وأول من سيفقده هم من آمنوا بك وقدموك للآخرين على أنك مثال يحتذى به.

ولكي لا أكون ظالمة، من الطبيعي أن يصدر عن الإنسان تصرفات لا تتواءم مع مثله العليا، لكن التراجع والاعتراف بالخطأ والتواضع أمام الآخرين هو ما يزيد من سمو أخلاقه.

للأسف ومن خلال سني عملي مع الكثير من الجهات المختلفة، وجدت الكثير الكثير من الكلام الأنيق الذي يطرب القلب لسماعه وترقص الأحلام لمعانيه، لكن لا وجود حتى لنية لتطبيقه.

لا يكون التغيير دفعة واحدة، لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، ومشوار التغيير يبدأ من نية حقيقية في تطبيقه بعيداً عن الرغبة الجارفة بتحقيق تسويق فردي ومؤسساتي عالي الوصول للمجتمع.





 



Comments